بقلم : عبد القادر العفسي-
ما يرد في سرد الفلم قد تتطابق أحداثه وشخصياته الواردة وصفا أو توصيفا أو تلميحا بمنطقة داخل المملكة المغربية الشريفة في الواقع ، و أي تشابه فهو صدفة و خيال ّ؛ ووجب التنويه كذلك أن بعض الوقائع لا تناسب بعض الفئات العمرية :
في العادة،كالباقي منا نشاهد أفلاما تتعلق خاصة بالمال و السلطة و المجتمع تفسر لنا الظواهر و الخطابات المتعالية و المكر و العنف و الانحراف و الفساد و الاختلاسات و تكوين عصابات إجرامية بأدوات الدولة وما يتبعه من تغطيات سياسية …فأحيانا ننخرط و نتحمس داخل الفيلم كأننا جَوٌ دَاعم مُشاركين في التعاطف الذي هو من صميم جنسنا الإنساني الميال إلى قيم الخير أو الشر تماهيا مع أضدادنا..!
هنا يسألوني الكثير عن الكتابات السياسية على أن في حياتنا ليس فقط هؤلاء الكائنات المزيفة و أبواقها المأجورة ..! فأقول:إن انتقاد فساد السياسيين و التركيز على مركز الثقل يُحرك المياه الآسنة و عش الدبابير، لأن السياسة هي الوطن ( الروح ، العقيدة ، الانتماء..) و خدام الشعب نطمح بهم إلى الارتقاء بالإنسان و المواطنة ( مفهوم إجرائي) عبر امتلاك واحتكار وسائل الإكراه المشروعة المستندة إلى قواعد الاتفاق (الانتخابات الدستور، المؤسسات..) صيانة لحياتنا كمواطنين و الحفاظ على حياته وحقوقه و تأمين العدالة … لكن عندما تختل الثقة و يفشل السياسي و يتبوأ القردة الواجهة يتم استعمال مؤسسات الدولة لسلب الحق و إحداث المشاغلة تروم الإضرار بالحياة العامة و تقويض الوطن و الإفلاس العام …
يبدو واضحا و جليا للإجابة على هذه المطارحات هو فلم الذي سُقته هنا بعنوان “عاد لينتقم..المسبح؟ ” الفلم “الكازاخستاني” المكون من ثلاثة أجزاء ، اختياره هو بعينه جمعه بين العديد من الأصناف الدرامية منها:المظلمة الكوميدية الوثائقية الهجائية و الإثارة و الجريمة و الرعب و الخيال و الغرائبية و الحرب و الاكشن و الرومانسية ذات الطابع الغريزي الجنسي،فلم ممنوع من العرض في دور السينما خوفا من طرح نقاشات عمومية تفضح الجهل و الإرهاب و العنف بل الاغتيال حقيقي لكل الحقول (الإنسانية،المعرفية،السياسية،القانون،الدولة…)،فالجزء الأول من الفلم كان عنوانه ” كلما زاد الإنسان غباوة ..ازداد يقينا بأنه أفضل من غيره في كل شيء” و الذي يتبنى كليا في الغالب المقدمة أعلاها التي هي جزء من السرد،حيث أن سياسي السياسية لا يتوفرون على أسس القيم و غير مسلحين بالمعرفة ليقتصر دورهم في أدلجة العقل و سحقه،فتكونت الوحوش الكاسرة المعادية للحياة بالتالي تحول كل نُظم الدولة إلى غابة تحكمها المافيات و المصلحة و الخداع و التضليل و التسلط و الغش بمنهج سلوكي يعبر عن الاستفزاز وعدم الاستقرار وعدم الإحساس بالأمان،وعن التخلف و الضياع الاقتصادي و الأمني … و هنا يأتي الدور المحوري ل “ريدار” بطل الفلم الكاتب المتحرر من كل القيود..ومن الطبيعي تعرضه للاضطهاد و كل مسلكيات الإغراء والتهديد والعنف في هذا الجزء من الفلم الذي سأقدم سردها لاحقا .
نتقدم إلى الجزء الثاني من الفلم عنوان هذه المقالة:”عاد لينتقم..المسبح؟”،التي تبدأ مشاهده الأولى بخطاب لأحد السياسيين و هو يهدد الكُتاب و المناوئين للفساد لإدعائه امتلاكه معطيات أمنية و عدم استلطافه بوقاحة للفقر!و هنا يتدخل بطل الفلم”ريدار” بعد مرور أسابيع .. في مشهد يُحدث احد مجانين الشارع واقتسم معه الحليب و بعض قطع الخبز ليخبره عن هذا السياسي التافه الشبيه بالمنشار و عن تاريخ جهله و قدومه من الوحل حتى تسلق سلم الحياة عبر القِوادة باعتبارها أحد أسهل الطرق المؤدية إلى السلطة و الجاه …و هو أ’ي ريدر’ يستنكر صمت القبور للنيابة العامة في عدم مساءلته عن هذه المعطيات المتاحة لكل سمسار الفاحشة حتى أضحت ابتزاز و هو في ذات الوقت مؤشر على انهار المؤسسات الأمنية و العدالة حسب الكاتب بطل الفلم…
ثم تنتقل صورة المشاهد إلى مقهى صغير في الزاوية و “ريدر” وحده و كتابه و قلمه الرديء…و في الجهة الأخرى المقابلة أربعة قاصرات عمرهن لا يتجاوز ستة عشر ربيعا يدخن السجائر؛حتى يفاجئن بدخول شرطي بلباس مدني معروف يدعى “لاَمِج” فيأمر برأسه القاصرات فيلحقنه للخارج ، حينها قام “ريدار” بملاحقتهم ضنا منه أنهم متجهين إلى مخفر الشرطة دون إذن النيابة العامة؟لكن الصدمة كانت الاتجاه نحو أحد المنازل بالضاحية الغربية للمدينة…ليصاب “ريدار”بالغضب!فأطلق العنان لحسه الأمني المتقد بالتحري عن هذه المسلكيات الإجرامية داخل أفراد الشرطة الفاسدة..!
و في مشهد أخر يظهر أن “ريدار” يتحدث مع إحدى القاصرات بعدما تتبع كل خطواتها ليعلم أنها من خارج المدينة تتعاطى المؤثرات العقلية وتخبره أنها جُندت لصالح “لامج” المسؤول الأول عن القسم معية “ازرق العينين” كما وصفته بل جزء كبير من عناصر “مكافحة المخدرات”،و أنها وغيرهن تقدم معلومات حول تجار المخدرات الجدد و متعاطيها بالإضافة إلى الاستغلال الجنسي الوحشي الذي تعرضن لهن..و في نفس المشهد يظهر “لاحر” رئيس الشرطة الجديد في المدينة بعد أن غادرها سنوات ليعود متوجا بالزعامة و السلطة المطلقة!عائدا شَوقا إلى عشيقته الروسية ” ررَبموط ” مستجيبا لغريزته و الطقوس الجنسية المريضة..و من خلال هذه المشاهد تبرز أوراق صغير ل” ريدار” معلقة على الجدران بأسهم رابطا بها والعلاقة بين “رئيس مكافحة المخدرات””لامج” والرئيس الجديد للشرطة الذين عين المسؤول الأخير”لاَمِج” ، مع تساؤله (أي ريدار ) عن مسار الفرقة السابقة (مكافحة الممنوعات) و رئيسها السابق “بيجن” التي جففت منابع المخدرات وتجارها الأقوياء مع خوضها معارك الوطن و حمايته من الخارجين عن القانون… لكن سعي الرئيس الجديد عبر “لامج” سعو تحطيم هذه الفرقة بإيصال معطيات الحملات الأمنية مكانيا و زمنيا لصالح تجار المخدرات لإيجاد مبرر يهدف تحديدها …وقد حصل ما أراد !
و في مشهد مفاجئ يظهر “لامج “و “لاحر”بجانب منزل ضخم به مسبح كبير! ليتوصل “ريدار” عبر رسالة نصية بحسابه الاليكتروني!رسالة مفادها:منزلا فاخرا به مسبح مملوك لأخت “رربموط ” التي تربطها علاقة عميقة حميمية ب “لامج ” لتتضح الصورة ..ليبدأ التحري السيد “ريدار” عن قضية “المسبح ” الذي هو عبارة عن تجارة ليلية و ملهى لكبار المدمنين و الفاسدين …ثم انطلق البحث عن عشيقة الرئيس الجديد ” لاحر” ليتبن بالإضافة إلى كونها عاشقة مختصة في الطقوس الإباحية وشبكة للفساد الأخلاقي.. دخلت عالم العقار و المنازل للكراء بفضل الغضنفر “لاحر” ،بل تتبع خيوط هذه المشاهد اتضح أن الرئيس الأسبق حصل على سيارة فارهة رباعية الدفع يفوق ثمنها 100 ألف دولار و التي هي عبارة عن هدية من أحد المتورطين في العديد من القضايا التي يحظى بحماية الدولة و السياسيين لأن ابنة هذا المحظي كانت تتعاطى الممنوعات و معلومة عنها العربدة… وأخيرا حصول الحالي “لاحر” على شقة ومنزل كالباقي ..كمقدمة لفتح أبواب الشرطة …!
و في مشهد أخر يظهر “ريدار” على الشاطئ متأملا فيعود فلاش باك، تذكر كيف كانت تلقى بضع كيلوغرامات من المخدرات الفاسدة شمالا ليعلم ان التهريب جنوبا هو نفس الغبار و الغباء ؛ هي نفس الإستراتيجية ولو اختلف التكتيك ، و تذكر كذلك حالة التطبيع عن طريق التغزل بهؤلاء العناصر لبعث الطمأنينة !حتى يتسنى له تفكيك المنظومة و يستفرد بجهة واحد دون الإجماع و ترتيب الأولويات ، نظرا لمعاناته من هذه العناصر الأمنية التي اتهمته بل هاجمته في عدة مناسبات ،و كلما أتيحت لها الفرصة أو يتم توجيهها من ممثل الحكومة أو سياسي أو تجار الممنوعات عبر اتهامات كونها مضحكة …،و على المنوال في مشهد آخر يتصل “ريدار” بشبكته من العلاقات لمراقبة مكان المسبح…لاحق و تتبع “فرقة مكافحة المخدرات” حيث كشف سلوكياتها المريضة الجنسية و الابتزاز و تجنيد القاصرين…و نظرا للسلطة الممنوحة لها:توقف وتحتجز المواطنين العاديين و المدنيين و آخرون مرضى عقليا بسبب تعاطي المخدرات(أقراص طبية،مخدر الشيرا) بحيث تُملئ تقاريرها تحت التهديد و أحيانا استعمال التحايل على أنهم تجار مُوزعين !لإعطاء صورة و انطباع الجدية؛و إضفاء الشرعية على الجرائم…بينما التجار الحقيقيين خاضعون للحماية و الإتاوات مقابل الحماية.. لكن انتشار المخدرات القوية و الصلبة في المدينة وكل أجهزة الدولة لا تعير أي اهتمام للأمر طالما الكل متواطئ و الاتاوة تصل …ثم تقوم هذه العناصر بالتدخلات المفرطة والعنف وإساءة استخدام السلطة بل دس المخدرات لبعض المواطنين في أماكن تواجدهم عبر القاصرات أو العاهرات المجندات لفعل هذا الأمر تحت الإكراه ليتحول المستهدف إلى ضحية ابتزاز، بالإضافة إلى التآمر و إعداد خطط أمنية يكون خارجها الشرفاء في هذا الجهاز..وفرض إتاوات على محلات النرجيلة بشكل أسبوعي…بل حتى إخضاع بعضهن التي تقتات من جسدها للاستمرارية ضريبة استغلال الجسد للعيش ..آكلي اللحوم، يُعلق”ريدار” .
و في المشهد الأخير ، يظهر فيه “ريدار” انه متوقف في شارع عام و عناصر الشرطة تطلب منه أوراق لإثبات نفسه مع تفتشه بعنف بالرغم من معرفتهم به و صفاء سريرته ، لكن غضب بعض العناصر أثار شكوك “ريدار ” بان الأمر كشف ، وعلموا انهم كانوا تحت المراقبة و التتبع .. ليتحدث أحدهم :هل تخال نفسك شؤون داخلية أو جهاز مخابرات خاصة تابع لرأس هرم الدولة بشكل مباشر حتى تجند هذا العدد الهائل من المواطنين للتحري عنا ؟ قالها بصوت غاضب ، ثم انصرف الكل و فهم “ريدار ” الرسالة ، لينتهي المشهد بقلم و ورق ابيض مكتوب بها هذه العبارات :
” انه وطني مثل وطنكم و أطفالي مثل أطفالكم و أخواتي مثل أخواتكم استفيقوا من الغفلة و الغياب ،لأن الطوفان قدر يجرنا جميعا و يلقي بنا خارج التاريخ .. استوعبوا التاريخ لفهم المستقبل فمقاربة الصمت والخنوع للذل و الاحتقار هي ثقافة الاحتضار و الموت و لا حياة ، فالأفضل لكم أن تعيشوا في الكهوف المظلمة و على حافة البحور و على هامش الحضارة الإنسانية ”
ملاحظ موضوعية:يمكن التقاط نقاط تتعلق باستخدام أدوات الربط و العطف كثيرا ، لكن بخصوص قضية السرد و نوع القضية فرضت وقائعها ، و نتمنى أن يطيب للقراء الكرام و الكريمات الخاطر بقبول السرد لتجاوز النقاشات الهابطة و نترجم المحتوى بشكل إيجابي يطور الذات و النقاش العمومي مع امتلاك رؤية سينمائية ! و إن راق لكم نكمل الجزء الثالث والأخير الأكثر إثارة !