بقلم ألون بن مئير-
لقد فشلت كل الجهود السابقة لمنع إيران من أن تصبح قوة نووية. لقد حان الوقت للولايات المتحدة وإسرائيل لتطوير استراتيجية جديدة تأخذ في الاعتبار إمكانية أن تصبح إيران قوة نووية ولكنها تجعل ذلك عقيمة دون استخدام القوة أو فرض عقوبات جديدة مع خلق نظام أمني إقليمي جديد ومستدام.
لإجبار إيران على تغيير طموحاتها الجيوستراتيجية لتصبح القوة المهيمنة النووية في المنطقة دون استخدام القوة أو فرض عقوبات إضافية، يجب إنشاء نظام إقليمي جديد وترسيخه على أربعة ركائز مترابطة: ميثاق أمني إقليمي تحت مظلة الولايات المتحدة، وتطبيع العلاقات الإسرائيلية – السعودية والإسرائيلية – العربية، وتخفيف الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني وتقديم حوافز اقتصادية لإيران وضمانات بأن الولايات المتحدة لن تسعى إلى أي استراتيجية لتسريع تغيير النظام. قد تبدو حرب إسرائيل وحماس والهجمات العنيفة المتبادلة بين إسرائيل وإيران بمثابة عقبة رئيسية من شأنها أن تمنع تطوير مثل هذا النظام الإقليمي الجديد؛ إلاّ إنني أزعم أن حرب غزة والتوترات المتصاعدة بين طهران والقدس هي في الواقع المحفز الذي يجعل ذلك ممكناً.
ولكي نغيّر استراتيجية الولايات المتحدة وإسرائيل، من الضروري أولاً أن نفهم المزاج النفسي لرجال الدين الإيرانيين ــ الطريقة التي ينظرون بها إلى أنفسهم ومكانهم في المنطقة وإحساسهم بالضعف ودوافعهم إلى التحول إلى قوة نووية مهيمنة إقليمية.
الفخر الوطني والإرث التاريخي
أولاً، إيران هي أكبر دولة في الشرق الأوسط من حيث المساحة، حيث يبلغ عدد سكانها نحو 90 مليون نسمة، أغلبهم من المسلمين الشيعة، مقارنة بنحو 80 مليوناً من السنّة في جميع دول الخليج والأردن والعراق وسوريا. وإيران هي الأغنى بالموارد الطبيعية، وخاصة النفط والمعادن، وهي تحتل موقع الاختناق الأكثر استراتيجية في العالم، مضيق هرمز، حيث يمر أكثر من ربع إجمالي النفط المنقول بحراً في العالم. وتفخر إيران كثيراً بماضيها المجيد، ونظراً لمزاياها، تشعر إيران بأنها تتمتع بالحق وأنها في أفضل وضع لتصبح القوة المهيمنة في المنطقة. وعلاوة على ذلك، فإن كونها أكبر دولة إسلامية شيعية يؤثر على نفسيتها الوطنية، حيث ترى نفسها كوصي على الإسلام الشيعي وفي تنافس دائم مع العالم الإسلامي السني بقيادة المملكة العربية السعودية.
العوامل السياسية والأيديولوجية
ثانياً، تنبع طموحات إيران النووية من حقيقة مفادها أن الشرق الأوسط منطقة متقلبة مليئة بالصراعات والتنافسات. وترغب إيران في تأكيد هيمنتها ونفوذها وتحويل ميزان القوى الإقليمي، وإظهار القوة، وردع القوى النووية الأخرى، وخاصة إسرائيل، وحماية البلاد وطول عمر النظام. وبالتالي، من المنظور الإيراني، فإن امتلاك الأسلحة الذرية من شأنه بلا شك أن يعزز مكانتها الإقليمية ويجعلها قوة لا جدال فيها، وينبغي أن تحظى باعتبار خاص من قبل الغرب وجيرانها من السنة في الغالب.
الفخر الوطني المستند إلى الديناميكيات السياسية الداخلية
ثالثاً، تسعى إيران إلى أن تكون على قدم المساواة مع باكستان، القوة النووية التي يبلغ عدد سكانها 252 مليون نسمة غالبيتهم من السنة. تريد إيران استخدام برنامجها النووي لتعزيز الفخر الوطني، وتقديمه كرمز للتقدم العلمي والتكنولوجي. ويساعد هذا الحكومة على حشد الدعم المحلي مع صرف انتباه الجمهور، إلى حد ما، عن القضايا الداخلية، وخاصة التحديات الاقتصادية والسخط الاجتماعي.
الردع
رابعاً، إيران عازمة على تحييد الميزة النووية الإسرائيلية من خلال خلق ردع نووي متبادل ــ استراتيجية التدمير المتبادل المؤكد ــ لضمان بقاء النظام. فضلاً عن ذلك فإن وجود القوات العسكرية الأميركية في الخليج الفارسي والعلاقات العدائية بين إيران والولايات المتحدة تزيد من شعورها بالضعف. وبفضل الأسلحة النووية، تستطيع إيران أن تمنع أي عدو من مهاجمتها أو التدخل في شؤونها الداخلية، وهو ما قد يؤدي إلى تعجيل تغيير النظام الذي تريد إيران تجنبه بأي ثمن. لقد راقبت إيران مصائر دول مثل ليبيا والعراق وواجهت عواقب وخيمة بعد التخلي عن برامجها النووية. وعلاوة على ذلك، فمن شبه المؤكد أن أوكرانيا ما كانت لتُغزى من قِبَل روسيا لو لم يتم إقناعها بالتخلي عن مخزونها من الأسلحة النووية في أعقاب انهيار الاتحاد السوفييتي. وعلى العكس من ذلك، تمكنت دول مثل كوريا الشمالية، التي طورت الأسلحة النووية، من تأمين أنظمتها ضد التدخل الأجنبي.
الحسابات الإستراتيجية وديناميكيات القوّة
خامساً، منذ ظهور الأسلحة النووية، لم تكن هناك سوى حالة واحدة حيث انخرطت دولتان مسلحتان نووياً في صراع عسكري مباشر: حرب كارجيل بين الهند وباكستان في عام 1999. خاضت باكستان والهند ثلاث حروب تقليدية، ولكن بمجرد حصولهما على الأسلحة النووية، تم تقليص الصراع بينهما إلى حد كبير إلى مناوشات مع ضمان عدم تصعيد أي مواجهات عنيفة إلى حرب كبيرة. عندما اندلعت حرب كارجيل بعد أن عبرت باكستان خط السيطرة في كشمير، تحركت الدولتان بسرعة لاحتوائها، ولم يلجأ أي من الجانبين إلى استخدام الأسلحة النووية. لقد عمل التهديد بالتصعيد النووي كرادع ومنع حروب شاملة بين القوتين النوويتين مدركتين، كما قال رونالد ريجان ذات مرة، “لا يمكن الفوز بالحرب النووية ويجب ألا ُتخاض أبدًا”.
التأثيرعلى المفاوضات
سادساً، يعمل البرنامج النووي الإيراني أيضًا كورقة مساومة في المفاوضات والدبلوماسية المستقبلية. فتخزين اليورانيوم الصالح للاستخدام في صنع الأسلحة وتطوير قدرات طهران النووية من شأنه أن يعزز من موقف طهران في انتزاع التنازلات والتفاوض على شروط أفضل في التوصل إلى اتفاقيات جديدة، بما في ذلك رفع بعض العقوبات وغيرها من الفوائد الاقتصادية. وفي المفاوضات السابقة بشأن برنامجها النووي، تمكنت إيران من تأمين الحوافز مقابل تنازلات محددة.
فشل إسرائيل في وقف البرنامج النووي الإيراني
لقد صورت الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة بقيادة نتنياهو، على وجه الخصوص، البرنامج النووي الإيراني باستمرار على أنه تهديد وجودي لإسرائيل. وبالنسبة لنتنياهو، فإن إشراك الجمهور في مثل هذه الرواية المشؤومة يخدم غرضه السياسي المتمثل في تقديم نفسه باعتباره الوصي النهائي على أمن إسرائيل. ورغم أن إيران، العدو المعلن لإسرائيل، تمتلك سلاحاً نووياً، وهو أمر مقلق، فإن الإيحاء بأن إيران قد تستخدم مثل هذه الأسلحة ضد إسرائيل مضلل وغير منتج. فطهران تعلم أن إسرائيل لديها القدرة على توجيه ضربة نووية ثانية، وأن مهاجمة إسرائيل بسلاح نووي يعادل الانتحار.
ولمنع إيران من تطوير أسلحة نووية، استخدم نتنياهو كل أداة تحت تصرفه لتخريب البرنامج النووي الإيراني، بما في ذلك اغتيال العديد من كبار العلماء النوويين وإفساد بيانات معالجة الكمبيوتر ومداهمة مبنى تخزين سري ومصادرة آلاف الوثائق المتعلقة بالمجال النووي. وعلاوة على ذلك، شن نتنياهو حملة لا هوادة فيها لوأد اتفاق خطة العمل الشاملة المشتركة بين الولايات المتحدة وإيران الذي تفاوض عليه الرئيس السابق أوباما. وتحدث نتنياهو في جلسة مشتركة للكونجرس لعرض قضيته ضد الاتفاق الإيراني. وفي أعقاب انتخاب ترامب رئيسا، أقنعه نتنياهو بالانسحاب من الاتفاق. وفشلت المفاوضات اللاحقة بين إدارة بايدن وإيران لاستعادة أو تعديل النسخة الأصلية من الاتفاق.
نتنياهو، الذي جعل من مهمة حياته منع إيران من تطوير أسلحة نووية، أنتج نتائج معاكسة تمامًا من خلال جهوده المضللة. لم يسفر ذلك إلاّ إلى سعي إيران لتسريع تخصيب اليورانيوم، وخاصة منذ انسحاب الولايات المتحدة من خطة العمل الشاملة المشتركة. وفي الوقت الحاضر، أصبحت إيران دولة نووية بحكم الأمر الواقع، ولديها القدرة على إنتاج ما يكفي من اليورانيوم المنقى لصنع قنبلة واحدة في غضون بضعة أشهر، بالإضافة إلى رأس حربي نووي ونظام تسليم في غضون 18 شهراً.
تحييد برنامج إيران النووي
لتجميد البرنامج النووي الإيراني بحيث تكتفي طهران بكونها دولة على عتبة الأسلحة النووية ولا تتخذ الخطوة النهائية لإنتاج سلاح نووي من شأنه أن يتماشى مع الموقف العام الإيراني القائل بأن إيران لا تسعى إلى أن تصبح قوة نووية، كما أنه من شأنه أن يمنع الانتشار الإقليمي للأسلحة النووية. ولتحقيق هذه الغاية، يتعين على الولايات المتحدة أن تتبنى استراتيجية مترابطة تتألف من أربعة مسارات:
أولاً، إبرام معاهدة أمنية إقليمية تحت المظلة النووية الأميركية
يتعين على الولايات المتحدة أن تسعى إلى إنشاء هلال أمني يمتد من الخليج إلى البحر الأبيض المتوسط، ويشمل المملكة العربية السعودية والبحرين وقطر والكويت والإمارات العربية المتحدة والأردن وفلسطين (الحلقة المفقودة) وإسرائيل ومصر. ومن شأن هذه المعاهدة الأمنية التي تشمل نصف الكرة الأرضية أن تخدم على أفضل وجه مصالح الأمن القومي لأميركا وحلفائها وأن تضع إيران تحت المراقبة من دون اللجوء إلى القوة. وسوف يتم تشكيل هذا التحالف الأمني على غرار ميثاق الدفاع الأميركي الذي اقترحته السعودية كشرط مسبق لتطبيع العلاقات مع إسرائيل، والذي يتضمن أ) ضمانات أميركية للأمن القومي السعودي، ب) قيود أقل على مبيعات الأسلحة الأميركية، ج) المساعدة من طرف الولايات المتحدة في تطوير برنامج السعودية النووي المدني، و د) تقدم جذري نحو إنشاء دولة فلسطينية. وفيما يتعلق بمثل هذا الميثاق الدفاعي، فإن المتطلبين (أ) و(د) فقط هما ذات الصلة بمناقشتنا.
ثانياً، تطبيع العلاقات الإسرائيلية – السعودية
يتعين على الولايات المتحدة بمجرد انتهاء حرب غزة استئناف المفاوضات مع المملكة العربية السعودية بشأن تطبيع العلاقات مع إسرائيل. وقد حدثت بالفعل مناقشات مكثفة بين إدارة بايدن والكونجرس بشأن المتطلبات الثلاثة الأولى للسعوديين، وظهر إجماع متزايد بين المؤسسة الدفاعية والكونجرس. وهذا من شأنه أن يرسل رسالة واضحة إلى إيران مفادها أن الولايات المتحدة تنوي المضي قدماً في ميثاق دفاعي مع المملكة العربية السعودية الذي سيتم توسيعه لصد أي طموحات وتهديدات إقليمية إيرانية ضد الدول المدرجة في الاتفاق. إن مثل هذا الاتفاق الأمني من شأنه أن يحمي البلدان المعنية ويعزز بشكل كبير الهيمنة العسكرية الأميركية التي لا تشوبها شائبة في جميع أنحاء المنطقة.
ثالثا، التخفيف من حدة الصراع الإسرائيلي – الفلسطيني
ولتلبية المتطلب النهائي للسعوديين، يتعين على الولايات المتحدة أن تضمن أن أي وقف إطلاق نار مستقبلي بين إسرائيل وحماس يؤسس لمسار من شأنه أن يؤدي إلى تسوية إسرائيلية – فلسطينية دائمة. وكما ذكرت مرارا وتكرارا، فإن هجوم حماس والحرب المروعة اللاحقة خلقت نموذجا جديدا. ويجب على الإدارة الأميركية، سواء في عهد هاريس أو ترامب، أن تضع قدمها على الأرض وتتوقف عن مجرد الحديث عن حل الدولتين، بل تتخذ أي تدابير ضرورية، مزيج من الإكراه والإغراءات، لإجبار إسرائيل على قبول الواقع الفلسطيني غير المخفف.
كانت الولايات المتحدة لعقود من الزمان، ولا تزال، هي الممكِّن الرئيسي لإسرائيل. ويمكن أن تُعزى الحالة المأساوية التي تجد إسرائيل والفلسطينيون أنفسهم فيها اليوم إلى حد كبير إلى السياسة الأميركية تجاه إسرائيل. إن الولايات المتحدة، رغم حسن نواياها في حماية إسرائيل، ألحقت الضرر بإسرائيل عن غير قصد من خلال التزامها بحماية الأمن القومي الإسرائيلي في حين وفرت لها غطاءً سياسياً شاملاً. ولإنقاذ إسرائيل من نفسها، يتعين على الإدارة الأميركية المقبلة أن تجعل أمنها ودعمها السياسي لإسرائيل مشروطاً باستعداد إسرائيل لبذل جهد حقيقي وتقديم تنازلات كبيرة نحو إنشاء دولة فلسطينية. والواقع أن أي حلّ مؤقت للصراع الإسرائيلي – الفلسطيني من شأنه أن يسحب البساط من تحت أقدام إيران، لأنها تغتصب القضية التي استغلتها طهران لسنوات لصالحها.
رابعاً، تقديم حوافز اقتصادية لإيران ووعد بعدم تغيير النظام
إن تقديم حوافز اقتصادية لإيران مقابل تجميد برنامجها للأسلحة النووية وإنهاء تهديداتها لإسرائيل من شأنه أن يقطع شوطاً طويلاً، طالما كانت إيران على يقين أيضاً من أن الولايات المتحدة لن تسعى إلى تغيير النظام أو تدعم تغييره . علاوة على ذلك، ينبغي على الولايات المتحدة أن تعد طهران بأنها لن تهاجمها وتمنع أيضا ً إسرائيل من مهاجمة المنشآت النووية الإيرانية. وقد تشمل الحوافز الإقتصادية لإيران رفع بعض العقوبات وتوفير القدرة على الوصول إلى الأنظمة المالية الدولية وتسهيل الاستثمارات الأجنبية في الاقتصاد الإيراني، وكل هذا لابد وأن يكون مشروطاً بالتزام إيران بالقيود النووية والشفافية.
الخلاصة
أعترف بأن الاستراتيجية الجديدة المقترحة صعبة وقد تبدو غير قابلة للتنفيذ نظراً لتاريخ هذه الصراعات المتشابكة وتعقيدها. ولكن كم من الوقت وكم من الحروب والوفيات والدمار سوف يستغرق الأمر حتى تقول الولايات المتحدة كفى وتتبنى هذه الاستراتيجية الجديدة لإحلال السلام والاستقرار في منطقة مضطربة، بغض النظر عن مدى صعوبة ذلك والمدة التي قد تستغرقها ؟