ماذا يمكن فعله عندما تشتبك الكتابة والذات والوجود في قبيلة الكلمات ؟ .. لكن هذا الاشتباك يجد تفسيره في تاريخية الذات وصيرورتها الوجودية في الزمان والمكان وحلم امتلاكها ، عبر فعل الكتابة ، للوجود وحقيقته المنفلة عن التأويل …
وفي انفلات الوجود عن الفهم والتأويل ، تلتحم الكتابة والذات في سفرهما الوجودي والشعري للبحث عن ” الوجود الضائع ” بحث مضنك ، يجعل الكتابة الشعرية عند عبد العاطي جميل ، تصاب بهوس الكتابة المستمرة ، الباحثة عن ” شيء ما ” ضاع في الزمان والمكان ، و تقتفي الذات آثاره في اللغة التي فقدت طعمها الوجودي .
تسافر الكلمة الشعرية ، نحو الأصل / لغة الأصل ، نحو ” الهناك ” نحو فردوس الكلمة المفقود ، لتحقق الذات في الزمان والمكان ، لتمتزج الكلمة بالحلم ، ذلك الامتزاج المشبع بالحلول الصوفي الذي يجعل الأنا هي الكتاب والكتابة هي الأنا ، الذات الشاعرة ، ليتفتح خطاب الذات على قول الأحاسيس المطمورة في لغة تقول الذات ، بدل أن تقولها الذات . تنتحل الذات مطلقها الخاص ن لينفلت ” زمن الشعر ” . إن نحن استعرنا لغة أدونيس . زمن الذات الشاعرة من سطوة زمن ” الأنا الجمعي ” نحو ” الصورة الشعرية ” التي تقول ذاتها وتحكي ولادتها القيصرية . هكذا تتحول ” المسودة ” عند الشاعر عبد العاطي جميل إلى ” حكاية ” الذات التي تعلن عن ولادتها بالفعل والقوة ، هي تحقق الذات المفترضة قبل أن تتحقق كتابة ، المسودة هي كتابة الذات التي تكتب ذاتها ، فالذات المفترضة ، هي ذات الما قبل شعري الذات التي تتحول إلى مرسل إليه لمرسل متعال ( الواقع في صيرورته ومتغيراته ) وهذه الذات تتفاعل وتدخل في تشاجر مه هذا ” الواقع ” ثم تعمل على محاورته والدخول معه في جدل عبر الكلمة الشعرية . وفي تفاعلها معه تكتبه وتكتب ذاتها ، وفي هذا التفاعل والكتابة ، تتحقق القصيدة المسودة ، بين مرحلة الاحتمال ، مرحلة التفاعل والكتابة . المسودة . ومرحلة التحقق بين مخاض الكتابة وولادة القصيدة على صفحة الورق ( السرير ) . المسودة عند عبد العاطي جميل حكاية مخاض الكتابة الشعرية ، وكأن الكتابة هنا ، هي كتابة قصيدة . نص تولد في لحظة الصراع الأبدي القائم بين ” الأنا ” و ” الأنا الأعلى ” لحظة اشتباك الذات الشاعرة والتاريخ ( الجماعة ) الضارب في الرفض جذوره ، صراع ينشد موت ” الشفرات ” المغلقة بيقين المعنى العاشق لحضوره المطلق ، وفي سعيها لمحور و ” شطب ” كتابة هذا الحضور المطلق ، ” يمحي حضور مدلول متعال ، مع بقائه مقروءا ” …
المسودة عند عبد العاطي جميل ، هي وكما يقول رولان بارث عن المسودة عند فلوبير وهو يكتب روايته بوفاري بيكوشيه ، فراغ تأملي قح ، فالمسودة ممارسة جسدية ، يكتب ن ويشعرن عبد العاطي جميل كل شيء ، إنها لحظة تعكس عنده أزمة الحقيقة ، إنها أيضا لحظة نلاحظ فيها بأن اللغة لم تعد تمنحنا ضمانة ، فكل ما يكتب يعيش لحظة ” الألم المعنوي ” ، إذ يعيش المعنى ألما . لا وجود لمعنى ومع ذلك هناك حلم للعثور على ” معنى ” يتزحزح عبر الكلمة الشعرية يقين المعنى الذي يقول الذات بدل أن تقوله .
ومن القول الشعري ” قول الذات ” ينفتح سؤال الكتابة الشعرية على أسئلة وجودية تتخلل الكلمة الشعرية ، لتكشف الصورة الشعرية عن ” كتابة الأرق ” كما هو الحال في ” مسودة لأرض الإخفاء ” .
” تؤرقني الأرض
حين تخفي ملامي
وترتدي ألمي
كي تبدو كاعبا ، ناهدا
في وجه الظلام .. ” …
الكتابة هنا حرب ضروس لا هوادة فيها ضد المتجلي والمختفي ، بحث في مدائن الكلمات عن حلم يسمو بالذات إلى السمو ومواصلة المسير في رحلة وجودية تتحقق فيها الذات ، كما يرى مارتن هايدجر ” ككائن . هنا ” يريد أن يجعل من الحلم طريقا ملكيا نحو مدائن النور ولو اقتضى الأمر من الذات أن تحبو على جثتها .
” وحده حلمي
من يحملني على المسير
في أقصى اليسار
ولو على مسودتي أحبو
أو على جثتي أجثو
فلن أصالح هذا الخوف
ولو بدل تعاويذه …
عدم مصالحة الخوف ، تأكيد على ما يسميه بول ديال ” الحيرة العميقة ” التي يولدها القلق . والقلق عند الشاعر عبد العاطي قلق ذاتي ، وجمعي ، ينكتب في الحدود الفاصلة بين ” المحو ” و ” الصحو ” بين ذاكرة المحو وذاكرة الصحو ؛
فهل أحتاج ذاكرتين
كي أصالح خوفي ؛
ذاكرة للمحو ،
وذاكرة للصحو
من سحاب أو سراب ..
أم ذاكرة للثواب ،
و أخرى للعقاب ؟ ..
وبما أن كتابة الخوف ، عبر الكلمة الشعرية كتابة عن مصير الكلمة المجمد دورها في دهاليز اللغة المكبلة أمام سلطة اليقين ، فإن الذات سرعان ما يكون رد فعلها عنيفا ” مشعرنة ” بذلك خطاب الغضب الذي تتمرآى فيه خيبة أفق انتظارها التاريخي ؛
ما أعنفني حين أجوع
وأخفي جوعي
عن يدي ولساني
كي لا يتعبا
في رشق الكلام ..
تتجاوز الكلمة الشعرية خطاب العنف الذاتي ليتفجر إيقاعها مخترقا الطبقات الكلسية التي تغلف أنشودة الذات والجماعة ؛
ما أعنفني حين أخفي تاريخ الشهداء
وتاريخ من ألبسوا طاقيات الإخفاء
لست الآن ،
أرثي دماءهم ،
فهي تحيا في يقيني
وتروي ظمئي
للبوح والفضح
يا صاح .. ؟ ..
كتابة الذات عند الشاعر عبد العاطي جميل ، كتابة البوح التي تحفر في الجراح التاريخية والجمعية ، كتابة عن فرح ذاتي وجمعي تتحول عبرها الكلمة الشعرية إلى بلسم تضمد به جراح الأسئلة الجمعية . الفرح الذي يجعل زمن الطفولة والشعر يتعانقان ليخلدا أنشودة الذات والجماعة .
اليوم فقط ،
سأكتب بعض فرحي
سأركب فرسي
كأي طفل
وأزدرد الحلوى ..
سيضحك قلبي
حتى يسكت مرتاحا ..
وبخط مغربي
سأوقف الكتابة
عن بكائي
بعض لحظات ..
إنها كتابة الذات التي تنشد ” التفاصيل اللذيذة ” التي يخبئها اللسان كما في مسودة ” اصدع واعرض .. ” . ما يلاحظ على هذا النص المسودة هيمنة الإيقاع الشعري المتصاعد ، فالبنية الإيقاعية في هذه المسودة تهتز باهتزاز مضمون القول الشعري . واندغام هذا الإيقاع الشعري المتصاعد ببنية صوتية تتداخل فيها الفونيمات المهموسة بالفونيمات الانفجارية ، في تركيب شعري تسكن الصورة الشعرية عبره إلى إيغال في البحث عن معنى منشود ..
قال الشاعر ؛
” ضع تميمة
في عنق المساء ،
ازرع قليلا
من دلائل الخيرات
في حنجرة الوجع … ” .
فالعلاقة القائمة بين التميمة والعنق والمساء ، علاقة استعارية يحكمها على المستوى التوليدي العميق دالان التميمة والعنق ، يجدان بدورهما تفسيرهما الأنتروبولوجي في المعتقد الجمعي الذي يؤمن بدور ” الأسطورة ” والعوامل الفوق طبيعية في القضاء على الألم الجسدي والمعنوي ، لكن ، وفي هذه الحال ، من الذي ستوضع في عنقه التميمة ؟ . الجواب هو المساء ، والمساء كان دائما في مخيال الإنسانية الإثنولوجي دلالة على النهاية والظلام ، ونهاية زمن ( يوم ) وبداية زمن آخر ( يوم آخر ) . هكذا ينسل الخطاب الإيحائي في خطاب عبد العاطي جميل ، ليدعو المتلقي لتأسيس وجود حقيقي متدرج ، والإنصات إلى وصايا الشعر الخمس ؛ التي تقول مضمونها في صيغة النهي والأمر بالمعروف الشعري ؛
الوصية الأولى ، وتأتي في صيغة الأمر ؛ قال الشاعر ؛
ازرع دلائل الخيرات
في حنجرة الوجع ..
الوصية الثانية ، وتأتي في صيغة النهي ؛
لا تقرب قرية الهجير
فيمسك وجع البادية ..
في هذه الوصية تبدو ” البداوة ” والسلطة صنوان لا يفترقان بحكم أنهما يحيلان على الهجير المعرفي و ” صحراء التماثل ” التي لا أمل فيها للعثور على واحة الاختلاف المعرفي .
الوصية الثالثة ، قال الشاعر ”
ضع توائم الزيتون الأسود
في عين خبزك الأحرش ..
للخبز طعمه الخاص في هذه الصورة الشعرية ، إنه خبز الجوعى الذي يستفز عن هذا المقطع الشعري خبزا أحرش لا تقوم له قائمة معنوية إلا في الوصية الرابعة ؛
واصدح
بصهيل الشاي
وصليل الكأس الخافية ..
الوصية الخامسة ؛ إنها وصية القراءة التي تنصح بقراءة كتب الأساطير غير الكتب السلطانية البالية ؛
اقرأ كتب الأساطير
غير الكتب السلطانية البالية ..
إنها دعوة لقراءة كتب الأساطير ، و قذف الكتب السلطانية إلى النار التي تختزن في بطونها تاريخا عربيا مهووسا حتى النخاع برفض الاختلاف ..
الكتابة الشعرية عند عبد العاطي جميل كتابة ” الطيش ” وهو بالمناسبة عنوان لنص ” مسودة الطيش ” التي تشكل بمطرقة النقد عيوب المجتمع ، و تسائل اللحظة في أبهى تجليات الأزمة ، كاشفة عن مشهد الكرامة الإنسانية المهدورة كما في مسودة ” مستشفى أبو غريب ” . حيث مشهد الطفل الذي يحكي لأبيه قتامة الموقف الإنساني ، والديدان تنهش جسد الطفل ، إذ يفوض الشاعر للطفل حكي مأساته قائلا ؛
” الديدان ..
الديدان ..
الديدان تأكلني
يا أبت .. ”
يجهش بالبكاء ..
لكن مسودات الشاعر عبد العاطي وهي تلتحم بقضايا الزمن المغربي والعربي على حد سواء ، تسعى جادة عبر الكلمة الشعرية . لامتلاكه معرفيا ، تندمج أسطورة الذات الخاصة ، بالسفر نحو عوالم الحب والحلم للانفلات من ” شقاء الوعي ” سفر نحو فردوس الحلم الذي تسعى الكلمة الشعرية لتخليد ذكراه في المسافة الفاصلة بين الأنا ( الذات ) و الأنت ، ليلتحم طرفا التواصل في عوالم الحب والتمرئي الصوفي المتبادل ؛
حين تبسمين
لحلمي ،
تتوهج مرائي قلبي
فأراك
أراني
يدا في يد .. ( من مسودة البهاء ).
إنه مبدأ الحلول الصوفي الذي يجعل الخطاب الشعري يسمو بالكلمة الشعرية نحو امتلاك الأصل / أصل الأشياء ودعوات الذات لنبذ التباعد الوجودي القائم بين الأنا والآخر ، والانغماس في اللحظة التي تجعل الذات تكتشف بأن مصيرها واحد منذ الأزل . وفي مسودة البهاء ينتفي اليأس باعتباره سيد الأشياء ، وتدرك الصورة الشعرية رسومه لتتلألأ لغة التواصل الحقيقي ؛
تغدو البسمات
في وجه الريح أقاحي
وياسمين
فهل نظل الآن ،
في المتاه بعيدين
تفترسنا اللحظات ..
إنها رحلة بحث ، عن بهاء اللغة المفتونة بعشق البحث عن الآخر ؛
أراك .. أراك ..
في كل قصائد الحب
وفي كل الأغاني الحالمة ..
الرؤية هنا ، رؤية أنطولوجية ، تذوب كيان الأنا في عشق الآخر حتى أقصى درجات التماثل التي ينتفي فيها التشابه مع رموز الحب في العقل الواعي العربي ؛
لست ليلى
ولست عبلة
لكنك حبر قلبي
أنت تاريخ الحب ..
إنها صورة شعرية لبحث محموم عن آخر يتجسد فيه التاريخ والحب ، نظرا للروابط العضوية والموضوعية القائمة وجوديا بينها ، كما يرى عبد الله العروي .. دعوة ” الآخر ” للسفر . دعوة لتجاوز الوحدة الوجودية والتاريخية ، لتدشين رحلة نحو عالم بديل يشكل نقطة البدء التاريخي .
هل تقبلين دعوتي
إلى فيافي حلمي
فالعواصف الحمراء ، والأمواج السوداء
فيه تحيا
وأنا هناك غريب
ألملم مجادف الطريق .. ؟ ..
إنها في النهاية ، دعوة لتجاوز الخوف الذي يتغلغل في وجود الذات ولغتها ، وبدء الاستمرار في تكريس يقين الحلم والكتابة ، كتابة الذات التي تسرد نفسها في المسودة ، التي تقول كل شيء ، إلا قول مصيرها الخاص والذي هو مصير الكتابة .. ألا يمكن في هذه الحال التساؤل ، بأن مصير الذات مرهون بمصير الكتابة ، ومصير دورها المرهون بمصير المجتمع وهويته ؟ …………………………………………..
مراكش 2005
………………….
قد يعجبك ايضا