انتحار بائعة البغرير نموذجا
محمد السعيد مازغ
ماتت بائعة البغرير حرقا، حيث فضلت الموت على ” الحكرة” التي أبى قائد المقاطعة السادسة لأولاد امبارك بالقنيطرة إلا أن يمارسها على امرأة لا حول لها ولا قوة، تعيل فلذة كبدها من بيع رغيف خبز، وتطمع أن يكفيها المدخول البسيط عن مد يدها واستجداء الناس، أو البحث عن لقمة ممرغة في التراب.
نتفهم أحيانا بعض الإكراهات التي تواجه رجال السلطة ، وهم مجبرين على تحرير الملك العام من سطوة الباعة المتجولين، وتطبيق التعليمات وفق القوانين والمساطر المعمول بها إداريا، ولكن ما لا يمكن القبول به، هو الشطط في استعمال السلطة، وعدم التدخل لإنقاذ حياة مواطن في حالة الخطر، بل ما لا يمكن استيعابه وتفسيره، هو أن يقف بعض رجال السلطة ممن تدخل حماية الوطن والمواطنين ضمن اختصاصاتهم ومسؤولياتهم، متفرجين منتشين بمشهد النار الحارقة وهي تأكل جسد المرأة المسكينة، ولا أحد منهم حرك ساكنا من أجل إنقاذها من موت محقق..
ماذا جنت ” أمي فتيحة” بائعة البغرير حتى تلقى المصير الدرامي في ذلك اليوم المؤرخ ـ في السبت 9 أبريل من سنة 2016 ـ ؟ هل كان أمام الضحية خيار آخر غير الإقدام على قتل النفس التي حرمها الله ؟ وهل كان من الممكن أن تلجأ لأية جهة من أجل حمايتها وصون كرامتها ووضع منتهكي كرامتها أمام مسؤولياتهم الأخلاقية والقانونية، وحتى لو عرفت طريق المحكمة ، فهل تسمح ظروفها المادية ووضعها الثقافي والاجتماعي والاقتصادي على إثبات الضرر وتأكيده بالدلائل الملموسة والشهود، فضلا عن تحمل تبعات النتائج ..؟ وهل ما قامت به بائعة البغرير، يمكن اعتباره نتيجة حتمية لانفعالات نفسية مشحونة بشظف العيش، وقهر المخزن، وغلاء المعيشة؟
أسئلة كثيرة، واستفهامات متعددة، وأجوبة لا تحتاج إلى عمليات حسابية معقدة، ولا إلى كهنة لفك طلاسيمها، فقد جرت العادة على أنه في مثل حالة بائعة البغرير التي تمثل المواطن المغلوب على أمره، فإن اللغة السائدة لذا بعض رجال السلطة ـ وليس الكل ـ ، هي الأوامر والتهديد وأحيانا استخدام القوة، ومصادرة البضاعة او إفسادها ..، وطبيعي ان هذا الأسلوب لا يتلاءم وطبائع الناس، فليس كل مرة تسلم الجرة ، حيث من الناس من يستسلم ويتنحى، ومنهم من يقاوم ويعاند، ومنهم من ينتقم ممن يعتبره ظالما مستبدا، ومنهم من يعنف نفسه، أو يسلك الخيار الصعب وهو الموت ، كما هو الحال في واقعة امي فتيحة.
فالمتأمل للحيثيات، يدرك أن الهالكة أحست بالحكرة والدوس على الكرامة من طرف معنفيها، فقررت وضع حد لحياتها ، والظاهر أن اختيارها للموت أمام باب المقاطعة لم يكن اعتباطيا، وإنما هو تعبير احتجاجي شديد اللهجة، قوي الصدى، هو صرخة ضد الظلم، وناقوس تنبيه للتجاوزات والقهر المجتمعي، ورسالة لمن يهمه الأمر مفادها أن الموت أرحم من حياة بلا كرامة، بلا رحمة، بلا حقوق. وقد وجدت الرسالة تجاوبا من قبل الراي العام المحلي والوطني ترجمتها مسيرة تنديدية حاشدة جابت شوارع وازقة القنيطرة مطالبة بفتح تحقيق في الشطط في استعمال السلطة و محاسبة الجناة.
ماتت أمي فتيحة ، وأخلت المكان الذي تحتله إلى الأبد، كما تركت أسرة لا تملك سوى الحزن على فقدان حبيب، والحسرة عن واقع يحتاج إلى كثير من تشريح، وفي انتظار نتائج التحقيق وما يترتب عنها من جزاءات، يسدل الستار عن قضية بائعة البغرير، ليفتح ملف آخر بمدينة او قرية ، عنوانه : ” قطع الاعناق ولا قطع الارزاق”.