التدبير المالي والإداري السيئ، المخالف للقانون، والإجرامي، هو تنظيم وتسيير و إدارة الشؤون والعمليات المالية: موارد، نفقات، ذمة مالية، عقارات، منقولات، وطرق البحث عنها وأوجه صرفها، تمارسها هيأة، منظمة أو مؤسسة معينة: حكومة، إدارة، شركة، جمعية، حزب، نقابة، أسرة أو أفراد، علاقة دولية، بكيفية رديئة، وإستراتيجية سيئة، مرفقة بهفوات كثيرة، واختلالات متنوعة، واختلاسات متعددة، ونتائج وحصائل مؤسفة للغاية⸱
يتخذ سوء التدبير المالي والإداري ورداءته، بما فيه التبذير والفساد، أشكالا وأنواعا مختلفة : كغياب الكفاءات والمهارات لتسيير المرافق وتقديم الخدمات، كالسذاجة في التدبير أو سوء النية، كالتدبير بدون عقلنة ولا إستراتيجية ملائمة⸱ تنتج عن هذه السلوكات الشاذة ممارسات مالية وإدارية إجرامية عديدة⸱ نلاحظ خاصة كثرة الرشاوى، الاختلاس، التهرب أو التملص الضريبي، تبييض وتهريب الأموال، خوصصة الأراضي وتملكها، الزبونية والمحسوبية والمحاباة، تعدد أنظمة الأراضي وتعقيدها، بهدف استغلالها في مكاسب شخصية، احتكار الأموال والأسواق والاقتصاد، تمويل الإرهاب، وتهريب وبيع الأسلحة عبر قنوات غير شرعية، ⸱⸱⸱
كما أن سوء التدبير الإداري والتبذير المالي، بمفهومها الشمولي السيئ-الرديء، نشاط مالي وإداري، خارج عن القانون بتاتا، يطبعه تضخم الأنانية، أو الارتجالية والعفوية في التدبير لضعف أو غياب الكفاءات، وجشع المكاسب وتفضيل المصالح الشخصية⸱ وتظل بعض الحالات، كتمركز السلطة، واستغلال السلطة والنفوذ، وغياب الضمير المهني، واللامبالاة، واللامعيارية، المطية الأكثر ملاءمة للرشوة، والاحتكار، والابتزاز، والاختلاس، والريع والإثراء غير المشروع، وارتكاب أخطاء فادحة ومتكررة، وعدم المراقبة، والملاحقة والعقاب من قبل المسؤولين، إداريين، ماليين أم قضاة⸱
نشأت هذه الظاهرة وترعرعت في ظل المجتمعات الإنسانية المنظمة، خلال حقب زمنية، وفي جغرافيات متباعدة، ولكن بنسب متغايرة وأشكال مختلفة، فتقوت وتضخمت، مع مرور الزمن، في مجتمعات، وضعفت وتقلصت في أخرى⸱ وترجع أسباب هذه التفاوتات والتباينات إلى الثقافات والمعتقدات والعادات والقيم وتضخم أو غياب العجرفة وأشكال أنظمة الحكم وسلوكيات الحكام السائدة في هذه المجتمعات⸱ وفي قوله تعالى: “وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد” سورة البقرة، الآية 205⸱ ويقول ابن خلدون في المقدمة بشأن الفساد: “يقع تخريب العمران، فتبقى تلك الأمم كأنها فوضى، مستطيلة أيدي بعضها على بعض، فلا يستقيم لها عمران، وتخرب سريعا⸱⸱⸱”⸱
تعتبر هذه الظاهرة المالية والإدارية الوبائية (سوء ورداءة التدبير المالي، بمفهومه الواسع، أي احتواء التبذير والفساد المالي والإداري)، المنتشرة بنسب مرتفعة خاصة في الدول المتخلفة أو النامية أو ضعيفة الديمقراطية، ذات أهمية بالغة⸱ ففي رأي الباحثين والمختصين والمهتمين في مختلف المجالات بهذا الموضوع، لما له من خطورة على المجتمعات والثقافات والحضارات لا بد من الإلمام به من حيث دراسته وتحليله وتفسيره وتشخيص أسبابه وأبعاده وآثاره وانتشاره وإظهار خطورته للالتفات بكل صرامة لهذا الوبأ ومحاولة التخلص من مخالبه، أو على الأقل التقليص بقوة من حدته، كما هو الشأن في الدول الديمقراطية الحقيقية⸱
ولقد اعتمدنا في دراستنا لهذا المشروع الضخم – الذي يقتضي تعبئة قوية من طرف كل الفاعلين ومن كل القطاعات المجتمعية، سياسية واجتماعية واقتصادية وثقافية وعلمية – منهجية بسيطة، لكن فعالة، تنطلق من العقل ومحاولة تركيزه وقيادته وتوجيهه، في نهج منظم، وبكيفية دقيقة، من بداية المشروع إلى نهايته، بهدف البحث والتفكير، خلال الوقت الكافي، عن الحقيقة في المجال العلمي لهاته الظاهرة المرضية⸱
وإشكالية البحث والتفكير في هذا المجال تقتضي من الباحث الموضوعي الذي يتوخى اكتشاف الحقيقة تشخيص هذه الظاهرة المالية والإدارية الوبائية⸱ وذلك من خلال دراسة أسباب ظهورها وتفشيها، مظاهرها وتجلياتها، آثارها وعواقبها، طرق معالجتها، وتقييم المجهودات المبذولة التي تحققها كافة المنظمات في جميع القطاعات وعلى كل المستويات⸱ وتختلف هذه المنظمات باختلاف أشكالها وأنواعها ومواضيع نشاطها: سياسيا أو اقتصاديا، اجتماعيا أو ثقافيا، بيئيا أو علميا، جهويا، وطنيا أو دوليا، سنة بعد أخرى، لمعالجة هذا الوبأ المالي والإداري “المؤذن بخراب العمران”⸱ و”مما يزهدني” في هذه الأوضاع السياسية الراهنة، إذا ما اقتصرنا على حضارتنا، أن “العرب، كما قال ابن خلدون منذ أواخر القرن الرابع عشر، أبعد الأمم عن سياسة الملك”، أي عن سياسة الحكم⸱ ذ،جيلالي شبيه