بناء الشخصية في قصص ( بلا ستار) للقاص والناقد المغربي علي درويش

0 345


الكاتب :الناقد ادريس الرقيبي

قبل البدء

نلتقي اليوم مع الطفلة الخالدة، هذا الجنس الادبي الذي أصبح اليوم، إلى جانب الرواية، ديوان العرب بعد أن كان الشعر يستأثر بهذه المهمة. ولا شك أنه الجنس الأنسب لتعقد الحياة اليوم وتسارعها…

ننفذ لهذا الجنس الأدبي من خلال نموذج متميز لكاتب متميز؛ يتعلق الأمر بالمجموعة القصصية (بلا ستار) للقاص والناقد علي درويش. تتعدد المداخل بتعدد مكونات النص القصصي، لكنني اخترت أن أتناول عنصرا مهما في البناء القصصي وهو الشخصية، “بناء الشخصية في قصص ( بلا ستار) للقاص علي درويش”.

     صدرت هذه المجموعة القصصية هذا العام في طبعتها الأولى عن مكتبة الطالب بوجدة، وتضم 13 نصا قصصيا تعكس تفاعل الكاتب مع قضايا نفسية واجتماعية وإنسانية وسياسية.. اختار الكاتب قبل الطبع عنوان نوافذ بلا ستائر ثم غيره ليصبح بلا ستار؛ والواقع أنه عنوان موفق- ونحن نعرف الدور الذي يلعبه العنوان في  بناء أفق التوقعات بتعبير ياوس. – أولا لأنه أكثر عمومية يتسع لدلالات وتأويلات عدة إذ هو كناية عن الوضوح بل يمكن أيضا أن يكون كناية عن الانفضاح، وثانيا لأن كلمة نوافذ  او نافذة  تولت الصورة التلميح لها وهو ما يعني تكامل لوحة الغلاف والعنوان في بناء المعنى. 

ما هي الشخصية؟

 الشخوص هم الافراد الحقيقيون أو الخياليون الذين تدور حولهم الأحداث وبهم تتطور، ولا يمكن تصور عمل سردي دون شخصيات، ويعتمد الكاتب في رسم معالمها وحركتها على الوصف والسرد.  يمكن مقاربة موضوع الشخصية من مجموعة من الزوايا المختلفة اعتمادا على المدارس النقدية التي تأسست لمقاربة الأعمال الإبداعية، كأن نعتمد على البنيوية أو على الوظيفية أو على النقد اللساني أو السيميائي أو على النقد النفسي أو على النقد الاجتماعي. ويمكن أن نعتمد على كل هذه المدارس في آن واحد.

       فالشخصية إذن مكون رئيس، وركيزة أساس لكل عمل سردي. والشخصية في هذه الحالة تلعب دورا بنيويا أو وظيفيا يوازي دور البنيات الأخرى: الزمان والمكان والأحداث .

       يعرف رولان بارت الشخصية بـ “أنها ناتج تركيبي يمكن أن يتكون من مجموعة من السمات التي تتكرر فتكون تركيبة قادرة أو تركيبة معقدة عندما تضم علامات متناسقة أو متنافرة. وهذا التعقيد أو هذا التعدد هو ما يحدد شخصية الشخصية”.

       ويمكن أن نجد لهذا التعريف مرجعية في أعمال كل من بروب وسوريو وغريماس الذي  يقدم الشخصية كنموذج نحوي يبني كيانه من خلال علاقاته التركيبية والجذرية أو الصرفية. وقد حدد جيرار جينيت خمسة أدوار لها هي الوظيفة السردية والأيديولوجية والانتباهية التواصلية ووظيفة الإدارة ووظيفة الوضع السردي. أما غريماس فقد حدد لها من خلال نموذجه العاملي ستة أدوار- عوامل.

كيف تبنى الشخصية؟ 

 الشخصية في العمل السردي تبنى وتصنع لأنها ليست صورة طبق الأصل عن ما هو في الواقع، إنها كائن من ورق.  وجدير بالذكر أن نشير إلى أهمية المنظور السميائي للشخصية عند غريماس الذي يميز فيها بين الممثل acteur والعامل  actan ومفهوم القوة الفاعلة باعتباره يضم الشخصية الادمية وغير الادمية. 

ويميز الدكتور عز الدين إسماعيل بين الشخصية الجاهزة والشخصية النامية؛ الأولى تظهر في القصة دون أن يحدث في تكوينها أي تغيير وإنما يحدث التغيير في علاقتها بالشخصيات الأخرى فحسب، أما تصرفاتها فلها دائما طابع واحد. أما الشخصية النامية  فيتم  تكوينها بتمام القصة فتتطور من موقف لموقف، ويظهر لها في كل موقف تصرف جديد يكشف لنا عن جانب منها. 

وعموما، يمكن للقاص أن يقدم شخصيته الجاهزة دفعة واحدة، وهذا النوع أصبح نادرا في القصة القصيرة المعاصرة لسببين اثنين، أولهما أن القاص يجتنب تقديم الشخصية في القصة كما هي في الرواية عن طريق الوصف الدقيق وإنشاء بطاقة هوية للشخصية تاركا للمتلقي عملية جمع المعطيات الخاصة بالشخصية  وتركيبها. وثانيهما أن جزءا كبيرا من القصص تحتل فيها “أنا السارد” الموقع الأساسي كشخصية. بينما يتم تقديم الشخصية النامية  تدريجيا للقارئ على طول القصة. ومثال ذلك شخصية الحاجة  في قصة “عندما تصفح الجراح” لعلي درويش كما سيأتي ذكره، وهي شخصية تقدم للقارئ عبر مراحل. 

 ونلاحظ اليوم أن الشخصية القصصية التي أصبحت تبدو معقدة أكثر فأكثر تترجم نوعا من الوعي بالواقع الذي أصبح بدوره أكثر تعقيدا. وقد أثرت الكتابة الغرائبية كثيرا على تصور الشخصية، حيث انتقلت عدوى غرائبية الأحداث إليها.

فكيف يبني القاص علي درويش شخوص قصصه؟

 بناء الشخصية في قصص بلا ستار

قد يغيب الاسم وتحضر الصفات : يرسم القاص قسمات شخصياته بشكل يجعلنا نتعاطف معها من دون أن يقدم اسمها؛ نجد ذلك في قصة (خطوط اللعبة) فالشخصية:” حافية القدمين، وجهها أغبر، نظراتها تائهة، أسفل ساقيها بقايا جروح يعلوها التراب…ثم هي تجثو فوق ركام من الأتربة والاسمنت، تصغي لصوت الأرض، تلطم صدرها وتنادي أحد الصبية الذين كانوا يلعبون لعبة الحجلة،: تعال كبدي أنا ماما حبيبي…وهي تخاطب لبيبة  ونكتشف نداء الامومة فيها حين تنادي في الصغار:” ادخلوا اختبئوا بالنفق… وتبدو في المقابل شخصية لبيبة غير مكترثة لنداء المرأة  وحتى بعد أن استشهد الصغار واصلت صمودها لاتبالي ترسم خطوط اللعبة من جديد..

هذه النهاية المأساوية للشخصية نجدها أيضا في قصة (كوب ماء) التي تحكي قصة زوجة موظفة مع صغيرها وزوجها؛ تقدم الشخصيتان عبر الحوار بشكل تدريجي ومتصاعد قبل أن تنفجر غاضبة بعد أن طلب منها زوجها كأس ماء وهي منهمكة في غسل الأواني” يا ناس أشفقوا لحالي، لم اعد أطيق، تعبت، متى أرتاح كبقية البشر”

ويأتي الزلزال لينهي حياتها ويبقى الاب وطفله وتنتهي القصة بسؤال اشكالي: سنخرج يا كبدي سنخرج لكن إلى أين.,..؟؟ 

بناء الشخصية من خلال اسمها: وتنقلنا قصة( اغتناء فقير) إلى نوع آخر من الشخوص؛ أولئك الذين غادروا المدرسة يقضون نهارهم وجزءا من ليلهم في قلب المدينة، منهم من يلمع الأحذية ومن يتسول ومن يمارس النشل في الحافلات والأسواق والشوارع,,, اختار الكاتب واحدا منهم يوحي اسمه بالكثير من المعاني ولد زهيرو(لاحظوا هنا نسبه لأمه) أو ولد لعوج بعد أن ذكر السارد أن اصدقاءه استبدلوا الراء واوا.. شخصية تبيع الحلوى وأشياء مشبوهة أمام المدرسة التي كان فيها السارد تلميذا ليصبح ولد زهيرو مع مرور السنوات من كبار المقاولين وغالبا ما تنتهي قصص الكاتب بحكم على لسان السارد، حكم تطرح سؤال القيم ” ما أغرب مفارقات الحياة، تمنح خيراتها لمن فضل أن يأتيها عبر أقصر الطرق”.

وتتعدد أسماء الشخصية لتلقي الضوء على تفردها وغرابتها كما نجد بالنسبة لشخصية عمي البراني أو ابن الجبل أو نزيل الجبل في قصة (نزيل الجبل) مع أوصاف أخرى تكشف غرابة هذه الشخصية التي تنطق بالحكمة؛ فهو غريب، لايختلط بالآخرين، السارد نفسه لا يعرف عنه شيئا، ولذلك يتساءل:”من أين قدم؟” يداعب الأرض بعصاه المعقوفة، لا يحضر الأعراس ولا الولائم، خزان لا ينضب من الحكايات، يحكي للأطفال، بينه وبين السارد ألفة، لا يحب الزواج، ينطق بالحكمة” اصعد على الصخرة، انظر إلى الشمس  هناك، لا تجلس تحت الصخرة حيث تختبئ الحشرات السامة، حاول أن تمد يدك لتمسك بقبس من نور الشمس..”

وقريب من هذه الشخصية شخصية ولد الرايس في قصة (لنحرك الشاحنة)،وهو السائق الجديد لشاحنة تحمل سكان قرية نائية الى المدينة عبر طريق صعب ( منهم الطالب نوري والفقيه البكاي يقدمهما السارد بأوصاف تعكس جدالهما ومشاحناتهما التي لا تنتهي “،  يتهامس الناس بأنه من غير هوية، بل وبدون رخصة سياقة.. 

أما الغوص في نفسية الشخصية فنجده بقوة في قصة (حضرة اللص المحترم) حيث حليم الطالب الذي أرهقه البحث عن شغل يفضح الحاج السراق فيكون ذلك سببا في نهاية مأساته مع البطالة بعد أن انخرط في شبيبة الحزب لكن الثمن هو الكرامة والمبادئ..

الغوص نفسه نجده في شخصية أمينة في قصة(باقات من كلام)  التي تتحدث عن من يصنعون كاتبات مزيفات ويعطونهن العضوية في اتحادات الكتاب، بل ويطعبون لهن إصدارات لا تجد من يقرؤها، فصناعة الكاتب المزيف كصناعة الوهم.

هكذا تتوالى الشخصيات لتعكس هذا التنوع في التناول لشخصيات من كل أطياف المجتمع، يلعب السرد والوصف والحوار دورا كبيرة في بنائها مع ارتباط هذا  البناء بالرؤية والرسالة والسياق فلذلك بعض الشخصيات يتم تقديمها وفي التقديم إدانة لها أو استغراب من سلوكها، وبعضها تشعر بالتعاطف إزاءها كلبيبة ورفاقها والجدة وشخصيات قصة (كوب ماء).. وعموما فقد مضى زمن الشخصيات النمطية كالبطل الذي لا يقهر السوبرمان و الشرير او نقيض البطل. فقد أصح هذا النوع مبتذلا لا يحقق متعة القراءة.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.