بقلم: عبد السلام الصديقي
بادر حزبُ التقدم والاشتراكية، مؤخرًا، إلى الإعلان عن برنامجه الانتخابي الوطني الذي سيخوض على أساسه الحملة الانتخابية بمناسبة التشريعيات المقبلة، لأجل السعي نحو إقناع الناخبات والناخبين بالتصويت لفائدة مرشحاته ومرشحيه. ومن خلال هذا العمل ظل الحزبُ وفيًّا لممارسته، حيث يقوم بمناسبة كل استحقاقٍ انتخابي أو مؤتمر وطني بالكشف عن برنامجه وخطته السياسية احتراماً للذكاء الجماعي للشعب المغربي، ورغبةً في إضفاء المصداقية على العمل السياسي.
وخلال كل المراحل التي مر منها، يبدو جَــلِــيّاً أنَّ لدى هذا الحزب ثوابت ومتغيرات. إذ تتجلى الأولى (الثوابت) في المنهجية، كما في المبادئ الكبرى التي يقوم عليها الحزبُ. وهي عناصرُ ثابتةٌ لأنها تعكس هويته كحزبٍ وطني، تقدمي، يساري، وديموقراطي. وعلى هذا الأساس فهو دائماً هو. لكن، وعلى غرار كل الكائنات الحية، فهو يتأثر بالتحولات التي تجعله يتكيف مع السياقات التاريخية ومع تطور العالَم من حولنا.
إنَّ هذه الجدلية بين الثابت والمُـــتحوِّل(الجديد) حاضرةٌ في كافة وثائقه وأدبياته، وبشكلٍ أشدَّ وضوحاً ضمن البرنامج الانتخابي الحالي.
فعلى مستوى المنهجية، والتي تُــعَـــدُّ عُنصراً مُـــمَــيِّــزاً لهوية حزب التقدم والاشتراكية، فهي تتجلى في التحليل الملموس للواقع الملموس، حيث يُعتبر الملموس نقطةَ البداية ونقطةَ النهاية. وفي هذه المرحلة الأخيرة لا
يتعلق الأمرُ بالملمــــوس السطحي والمألوف، بل بالملمـــوس “المُـــفَــــكَّـــر فيـه” / (le concret pensé)، أي الواقع بعد إعادة تصوره ذهنياً وإخضاعه للمُساءلة الفكرية.
كما أن الحزب يُفضل دوماً المقاربة الشاملة على التحاليل التجزيئية، وذلك انطلاقاً من كون الواقع الاجتماعي (أو لنقل بالأحرى: التشكيلة الاجتماعية) هو كُــــلِّـــيَّةٌ لا تتجزأ، إذ يتقاطعُ فيها السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي من خلال تمفصلاتٍ عديدةٍ في هذه المُستويات، مما يجعلُ الفصل بينها أمراً في غاية الصعوبة، إذا لم يكن أمراً مستحيلاً. أما تقديم أحد هذه المستويات على أخرى في النص (البرنامج الانتخابي أو غيره من وثائق الحزب) فلا يعدو أن يكون سوى تمريناً شكلياً ليس إلاَّ، دون أن يمسَّ ذلك إطلاقاً بهذه القاعدة المنهجية.
وهو الأمر نفسُهُ أيضاً بالنسبة إلى أساسيات الحزب وتموقعه السياسي، فهو حزب يساري اشتراكي، وسيظل كذلك، متمسكٌ بقيم العدالة الاجتماعية، ومُدافِعٌ عن مصالح الشغيلة والفئات المحرومة من المجتمع، وعن الوحدة الترابية والسيادة الاقتصادية، وعن الديموقراطية وتوسيع فضاء الحريات العامة والخاصة، ومُتعلِّقٌ بقيم الحداثة والتقدم والمُساواة. وهو يقوم بكل ذلك بشكلٍ خلاَّق من خلال تَـــكَيُّـــفِــهِ مع متطلبات المرحلة (كل مرحلة)، من دون أيِّ تصورٍ دوغمائي، ولا أيِّ سلوكٍ يُفضي إلى التعصب، أو ثرثرة ثورية فارغة من شأنها أن تعزله عن الجماهير الشعبية التي يطمح إلى الدفاع عنها.
على أساس هذه المُنطلقات، تمت صياغةُ البرنامج الانتخابي لحزب التقدم والاشتراكية (2021) في شكلِ الثالوث الآتي: الديموقراطية؛ حقوق الإنسان؛ والتنمية. هكذا، فلا تنمية بدون ديموقراطية حقيقية واحترامٍ لحقوق الإنسان
كما هي مُتعارَفٌ عليها كونياً. فلا يستقيم النظرُ إلى الاقتصاد على أنه، فقط، وسيلةٌ لخلق الثروات عبر تراكم الرأسمال وإغناء بعض الفئات الاجتماعية. بل ينبغي اعتبار الاقتصاد عملاً واعياًّ ومدروساً من قِبَلِ المجتمع يستهدف تحسينَ مستوى عيش المواطنين وجعلَ حياةِ الناس أكثر سهولةً ورَغَــــداً، من خلال توزيعٍ مُنصفٍ لثمار النمو، وأنسنةَ العلاقات الاجتماعية للإنتاج.
ولبلوغ هذه الغايات يتعينُ على جميع الفاعلين العمل في هذا الاتجاه. فالدولة عليها أن تضطلع بوظائفها الأساسية الثلاث: الضبط؛ إنتاج السلع والخدمات الجماعية (التعليم، الصحة، البنية التحتية…إلخ)؛ والاستثمار في القطاعات الاستراتيجية لإعداد المُستقبل. أما المقاولة الخصوصية، والتي لديها دورٌ أساسي في المرحلة التاريخية التي نجتازها، فهي مُطَــــالَبَةٌ بتغييرٍ حقيقي في سلوكها القائم، حاليا، على المضاربة والريع، وذلك لكي تتحول إلى مقاولة مواطِنة، مُنتِجة للثروة، ومحترِمَة للمعايير الاجتماعية والإيكولوجية. ثم أخيرا هناك الفرقاء الاجتماعيون الذين يُعتبر وجودهم ضرورياً للاستقرار الاجتماعي وخلق مناخ ملائمٍ لتطوير الأعمال، فهم في حاجةٍ إلى أن تتوفر لهم الظروف والأجواء المُساعِدة على التشاور والحوار الاجتماعي. وسَــيُكــَــلّـلُ كلُّ ذلك بالمصادقة على ميثاقٍ اجتماعي للتقدم كفيلٍ بالتوفيق الخلاق بين مُتطلبات التنافسية الاقتصادية والفعالية الاجتماعية واحترام الحقوق الأساسية للعمال.
وانطلاقًا من حرصه على استقلاليتنا، جعل الحزبُ من مفهوم السيادة العمودَ الفقري لبرنامجه: سيادة في كافة الميادين وفي جميع الحالات. ولا يُقصد بالسيادة، إطلاقاً، الاكتفاء الذاتي أو الحمائية. وهكذا تم تناولُ: السيادة الغذائية، وهو ما يتطلبُ مراجعةً عميقةً لاختياراتنا الفلاحية وتدبير مواردنا السمكية والبحرية. ثم السيادة الصناعية التي تستدعي إعادة تموقع المغرب في المسالك القائمة على استعمالٍ مكثف للتكنولوجيات المتطورة
واستثمارٍ قويٍّ في البحث العلمي والابتكار، وتثمين قوة العمل من خلال الانتقال من عملٍ بسيط إلى عملٍ مُعقد. ثم أيضاً السيادة الصحية، من خلال تطوير صناعة وطنية للأدوية. وكذلك السيادة المائية (الأمن المائي) عبر ضمان تزويد الساكنة بالماء الصالح للشرب بشكلٍ منتظم وبأسعار مناسبة. ثم السيادة الطاقية، مع التركيز على إنتاج الطاقات المتجددة والانتقال الطاقي…. وفي نفس الاتجاه، يتبنى حزبُ التقدم والاشتراكية مقترح “إنتاج مغربي واستهلاك مغربي”، مع ضرورة تَــحَــمُّــلِ عواقبه ولا سيما في مجال التمويل.
طبعاً، إنَّ لِــمثل هذه “الوَطَــــنية الاقتصادية” كُــلْفةٌ ينبغي على المجتمع برمته تحملها. ومن هنا تبرز ضرورة تعبئة الموارد المحلية/الذاتية بما يكفي، حتى لا نظل تحت رحمة الرأسمال الدولي. مما لا يعني، هنا أيضاً، القطيعة النهائية مع الأوساط المالية الدولية، بل على العكس تماماً، بلادنا ستربح الكثير من خلال إبرام شراكاتٍ مع مختلف البلدان وتنويع علاقاتها على قاعدة “رابح-رابح”.
يتضح جلياًّ، إذن، أن البرنامج الانتخابي لحزب التقدم والاشتراكية هو بالأساس تصورٌ لمغرب ما بعد جائحة كوفيد 19. إنه برنامجٌ طموح وواقعي: طموح لكونه يضع المغرب في منحىً تصاعدي على مستوى التقدم الاقتصادي والتحرر الاجتماعي. وواقعي لأنه يأخذ في عين الاعتبار الإمكانيات التي تتوفر عليها بلادنا وتلك القابلة للتعبئة في الأجل القريب والمتوسط. فهو، إذن باختصار، برنامجٌ تعبوي يفتح الآفاق أمام الشباب ويقدم له جرعة قوية من الأمل يمكنها أن تحفزه على الانخراط أكثر في الحياة السياسية وعلى استعادة الثقة في بلاده ومؤسساتها.